أثارت كل من جريمة مقتل “الصوفي ولد الشين” في مفوضية الشرطة رقم 1 بدار النعيم، وحادثة وفاة عمار جوب بعد توقيفه في مفوضية الشرطة رقم 1 بالسبخة نقاشا حادا وجدلا كبيرا، وأعمال شغب واسعة شملت عدة مدن في حادثة وفاة عمار جوب، وكان من نتائجها وفاة الشاب محمد الأمين في بوكي، ونهب وإتلاف بعض الممتلكات الخاصة والعامة.
إن تلك الأحداث تستوجب منا نقاشا هادئا، في مثل هذه الأوقات الهادئة، والتي توقف فيها النقاش الحاد حول الحادثتين. يهدف هذا النقاش الهادئ الذي أرجو أن يفتتحه هذا المقال، إلى وضع ضوابط متفق عليها للتعامل مستقبلا مع هذا النوع من الأحداث، والذي نأمل أن لا يتكرر مستقبلا، حتى وإن كنا ندرك بأن احتمال تكرره سيبقى قائما.
أخطاء الشرطة ظاهرة عالمية
تتولى الشرطة في كل دول العالم مهمة توفير الأمن للمواطن، وتعدُّ هذه المهمة من أكثر المهام أولوية، ومن أكثرها تعقيدا، ولا يمكن تصور وجود دولة دون توفير الأمن. خلال تأدية الشرطة لمهامها الأمنية قد تحدث بعض الأخطاء، بل بعض الجرائم التي قد تتسبب في فقدان الأمن الذي وُجدت الشرطة أصلا لتوفيره.
والأمثلة على ما قد تتسبب فيه أخطاء الشرطة من فقدان للأمن في بلد ما كثيرة، ولعل من أبرز الأمثلة ما يحدث حاليا في فرنسا من احتجاجات ومن أعمال شغب واسعة جاءت كردة فعل على جريمة إقدام ضابط شرطة على إطلاق رصاصة قاتلة على الشاب نائل (17 سنة) عند نقطة تفتيش في “نانتير” (15 كلم غرب باريس). وقد سجلت في فرنسا من قبل هذه الحادثة، وفي العام الماضي وحده 13 عملية قتل ارتكبها شرطيون عند نقاط التفتيش.
ومن قبل هذا، وفي العام 2005 شهدت فرنسا أعمال شغب واسعة بعد وفاة مراهقين اثنين في يوم 27 أكتوبر من ذلك العام، كانت وفاتهما ناتجة عن صعق كهربائي تعرضا له أثناء مطاردة بعض عناصر الشرطة لهما. أحداث الشغب التي أعقبت تلك الحادثة استمرت لثلاثة أسابيع تقريبا، وأدت في المحصلة النهائية إلى حرق ما يقارب عشرة آلاف سيارة، وتدمير أو إلحاق الضرر ب 300 مبنى.
وفي أمريكا ارتكبت بعض عناصر الشرطة الكثير من الجرائم التي أدت إلى وفاة عدد كبير من الأمريكيين كان أغلبهم من السود، فحسب صحيفة “الواشنطن بوست” فقد قتلت الشرطة الأمريكية في العام 2019 لوحده 1014 أمريكيا من السود، ولعل من أشهر الجرائم المرتكبة من طرف عناصر الشرطة، ما حدث يوم 25 مايو 2020، حيث ظهر ضابط الشرطة الأمريكي ” ديريك تشوفين” في فيديو مصور وهو يضغط بركبته على رقبة المواطن الأمريكي “جورج فلويد” إلى أن توفى، وهو يصرخ مستغيثا “من فضلك، لا أستطيع التنفس”. ومن قبل ذلك في العام 2014 وبنفس الطريقة قتل عناصر من الشرطة المواطن الأمريكي “إيريك غارنر”، وقد توفي أيضا وهو يصرخ مستغيثا “لا أستطيع التنفس”.
تسببت جريمة مقتل “جورج فلويد” في احتجاجات واسعة شملت 2000 مدينة وبلدة أمريكية، وأكثر من 60 دولة في العالم، ومع أن هذه الاحتجاجات كانت في بدايتها سلمية، إلا أنها شهدت أعمال شغب واسعة، وقد أدت إلى وفاة 11 شخصا، وتوقيف أكثر من 11 ألف مواطن، وفرض حظر التجول في 200 مدينة أمريكية، وفي مدينة ” مينيابوليس” التي قُتل فيها “جورج فلويد” تم إشعال النيران في 220 مبنى، وقدرت الخسائر في هذه المدينة لوحدها ب 55 مليون دولار.
وفي بريطانيا، وتحديدا في “توتنهام” شمال لندن، أطلق شرطي في يوم 4 أغسطس 2011 الرصاص على مواطن بريطاني أسود يدعى “مارك دوغان” (29 سنة) فقتله بعد عملية مطاردة، وأدت تلك الحادثة إلى أعمال شغب غير معهودة في بريطانيا، تم خلالها توقيف أكثر من ألف متهم، ووفاة 5 أشخاص، وإصابة أكثر من مائة شخص، وتم الاعتداء خلال أعمال الشغب تلك على حوالي 6 آلاف محل تجاري.
هذه بعض أعمال الشغب الواسعة التي حدثت في بعض الدول الغربية بسبب جرائم ارتكبها شرطيون ضد مواطنين من أصول إفريقية في تلك الدول، وخارج الغرب يمكن أن نتحدث عن اعتقال المواطنة الإيرانية “مهسا أميني” (22 عاما) في يوم 16 سبتمبر 2022، من طرف شرطة الأخلاق، والتي أدت وفاتها بعد يومين من اعتقالها إلى احتجاجات واسعة في إيران رفعت شعار إسقاط النظام. وفي مصر، في يوم 6 يونيو 2010 تعرض الشاب خالد سعيد (28 سنة) للضرب من طرف اثنين من مخبري الشرطة حتى الموت، وقد مهد الحراك الذي أعقب تلك الجريمة للثورة المصرية، وفي تونس فقد شكلت صفعة شرطية تونسية لمحمد البوعزيزي شرارة للثورة التونسية.
بعد استعراض هذه الأمثلة من خارج حدودنا دعونا نأخذ منها بعض الدروس والعبر، وذلك من خلال تقديم بعض النصائح التي قد تساعد مستقبلا في تفادي مثل هذه الأخطاء داخل قطاع الشرطة، والتقليل من الآثار الكارثية لتلك الأخطاء في حالة وقوعها.
الوقاية أولا
إن أفضل وسيلة لتفادي الاحتجاجات وأعمال الشغب التي تأتي كردة فعل على أخطاء الشرطة، تتمثل في تجنب الوقوع في تلك الأخطاء، وذلك من خلال تكوين عناصر الشرطة وتدريبهم حتى يكونوا قادرين على تأدية مهامهم دون الوقوع في مثل تلك الأخطاء.
تجنب بيانات “الوعكة الصحية”
من القواسم المشتركة بين هذه الأمثلة التي استعرضناها هنا هو أن الشرطة حاولت دائما أن تقدم روايات وحججا غير مقنعة لتبرير تلك الأخطاء، وكثيرا ما تتهاوى تلك الروايات أمام أدلة موثقة يتم تقديمها من طرف المحتجين.
على الشرطة أن تدرك بأن المعلومات أصبح من الصعب حجبها في زمن تدفقها، وأن كاميرات الهواتف المحمولة جاهزة لتوثيق ما يحدث، ففي الأحداث الأخيرة في فرنسا مثلا حاولت الشرطة في البداية أن تبرر قتل الشاب “نائل” برواية مفادها أن الشرطي أطلق الرصاص دفاعا عن النفس، وذلك بعد أن حاول “نائل” أن يدهسه بسيارته، وهو الشيء الذي أثبت الفيديو المتداول عدم صحته.
نفس الشيء حدث مع جريمة قتل “الصوفي ولد الشين”، حيث حاولت الشرطة في البداية أن تقول من خلال بيانها الذي لقي استنكارا واسعا بأن “الصوفي ولد الشين” توفى بسبب وعكة صحية. مثل هذه البيانات غير المقنعة يأتي دائما بنتائج عكسية.
إن ما أريد قوله هنا هو أنه ليس من مصلحة الشرطة محاولة التستر على ما قد يرتكبه بعض عناصرها من أخطاء قد تؤدي إلى وفاة أشخاص أبرياء، فمن جهة فإن عملية التستر لم تعد ممكنة في زمن تعدد مصادر المعلومات، ومن جهة أخرى فإن عملية التستر قد تجعل الشرطة بكاملها في محل اتهام من طرف المواطنين، وذلك بدلا من حصر الاتهام في عنصر الشرطة ـ أو عناصرها ـ الذين ارتكبوا تلك الجريمة.
لا لتشويه سمعة الشرطة
ليس من مصلحتنا أن نشوه سمعة الشرطة، وهي التي تتحمل مسؤولية توفير الأمن لنا، فإذا كان مطلوبا من الشرطة أن لا تتستر على أخطاء عناصرها، فإنه مطلوب كذلك من قادة الرأي العام أن لا يحملوا الشرطة في مجموعها أخطاء بعض عناصرها.
خلاصة القول في هذه النقطة هو أنه على الشرطة أن لا تتستر على من يرتكب الأخطاء من عناصرها، وعلى صناع الرأي العام أن لا يعمموا الأخطاء الفردية التي يرتكبها شرطيون على كل قطاع الشرطة.
لا للشحن ..لا للتجاهل
أظهرت حادثة وفاة عمر جوب مدى خطورة الشحن الإعلامي والتجييش العاطفي الذي قام به بعض المعارضين بعد تداول خبر وفاة عمر جوب. حاولت المعارضة ومنذ أول لحظة أن تجرم الشرطة وأن تؤلب عليها الرأي العام، فكان ما كان. وفي المقابل، أظهرت تلك الحادثة أيضا خطورة تجاهل مثل هذه الأحداث من طرف الأغلبية، والتي كثيرا ما تظهر عند المغنم وتغيب عند المغرم.
في مثل هذه الأحداث فإنه لا يجوز الاستغلال السياسي لها، والذي قد تقوم به المعارضة، ولا يجوز كذلك تجاهلها، والذي قد تقوم به الأغلبية، وإنما يجب على الطبقة السياسية بمختلف أطيافها أن تتفق على النقاط التالية:
ـ التضامن مع ذوي الضحايا، وإظهار ما يمكن إظهاره من مؤازرة؛
ـ المطالبة بتحقيق شفاف؛
ـ العمل من أجل معاقبة الجناة، إن كان هناك جناة.
الشرطة ليست مسؤولة لوحدها
إن هذه الاحتجاجات وأعمال الشغب التي تأتي كردة فعل على جرائم فردية يرتكبها شرطيون ليست من أجل التضامن فقط مع ضحايا تلك الجرائم، وإن كان ذلك هو عنوانها الأبرز، وإنما هي بالإضافة إلى ذلك تشكل تعبيرا قويا ـ وربما عنيفا ـ عن رفض لواقع معين، ولذا فإن شعور السود بالتمييز في أمريكا، ومعاناة الفرنسيين وغيرهم من أصحاب الأصول الإفريقية في أوروبا هو الذي يغذي تلك الاحتجاجات وأعمال الشغب، ومن يخرج في تلك الاحتجاجات تضامنا مع هذه الضحية أو تلك، فهو يخرج أيضا ضد الفقر والبطالة والتهميش وغياب العدالة.
وبما أننا بدأنا هذه النقاط بنقطة تتعلق بالوقاية، فسنهيها أيضا بنقطة أخرى تتعلق بالوقاية. وإذا كانت النقطة الأولى تتعلق بالوقاية داخل قطاع الشرطة لتفادي مثل هذه الأخطاء، فإن النقطة الأخيرة تتعلق بالوقاية من خارج قطاع الشرطة. فمثل هذه الاحتجاجات وأعمال الشغب لن تتوقف حتى وإن توقفت أخطاء الشرطة. إنها لن تتوقف في ظل الشعور بالغبن وتفشي البطالة وغياب العدالة وانتشار الفساد، ولذا فإن الوقاية منها تبدأ وتنتهي بمحاربة البطالة والفساد وتوفير العدالة، والقضاء على كل أشكال الغبن والتمييز.
حفظ الله موريتانيا…
محمد الأمين ولد الفاضل
elvadel@gmail.com